تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :كيفية قراءة القرآن الكريممحمود العشري
لقد شرع الله - تعالى - لقراءة القرآن صفة معينة وكيفية ثابتة، وقد أمر بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال : ﴿ ورتل الْقُرْآن ترْتيلا ﴾ [المزمل: 4]؛ أي : اقرأه بتؤدة وطمأنينة وتدبر؛ وذلك برياضة اللسان، والمداومة على القراءة بترقيق المرقق، وتفخيم المفخم، وقصر المقصور، ومد الممدود، وإظهار المُظهر، وإدغام المُدغم، وإخفاء المخفي، وغن الحرف الذي فيه غُنة، وإخراج الحروف من مخارجها، وعدم الخلط بينها، كل ذلك دون تكلُف أو تمطيط، ولقد أكد الله - تعالى - الفعل وهو : (رتل) بالمصدر وهو: (ترتيلا)؛ تعظيما لشأنه واهتماما بأمره، كما قال - تعالى -: ﴿ وقُرْآنا فرقْناهُ لتقْرأهُ على الناس على مُكْثٍ ونزلْناهُ تنْزيلا ﴾ [الإسراء: 106]؛ أي : لتقرأه على الناس بترسُل وتمهُل؛ فإن ذلك أقرب إلى الفهم، وأسهل للحفظ.
والواقع أن هذه الصفة لا تتحقق إلا بالمحافظة على أحكام التجويد المستمدة من قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتي ثبتت عنه بالتواتر والأحاديث الصحيحة؛ ففي صحيح البخاري أن أنسا - رضي الله عنه - سُئل : كيف كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم؟ فقال : "كانت قراءته مدا، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم ؛ يمد بسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم".
وقد نُقلت لنا هذه الصفة بأعلى درجات الرواية، وهي المشافهة؛ حيث يتلقى القارئ القرآن عن المقرئ، والمقرئ يتلقاه عن شيخه، وشيخه عن شيخه، وهكذا، حتى تنتهي السلسلة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم.
ومن المؤكد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علم أصحابه القرآن، كما تلقاه عن أمين الوحي جبريل - عليه السلام - ولقنهم إياه بنفس الصفة، وحثهم على تعلمها والقراءة بها؛ فلقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع ابن مسعود - رضي الله عنه - يقرأ في صلاته، فقال : ((من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أُنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد))، والحديث رواه أحمد والطبراني والبزار، وفيه عاصم بن أبي النجود، وهو على ضعفه حسنُ الحديث، وبقية رجال أحمد والطبراني رجال الصحيح.
ولعل المقصد - والله أعلم - أن يقرأه على الصفة التي قرأ بها عبدالله بن مسعود من حُسْن الصوت، وجودة الترتيل، وحسن الأداء.
ولقد خص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفرا من الصحابة أتقنوا القراءة حتى صاروا أعلاما، فكان يتعاهدُهم بالاستماع لهم أحيانا، وبإسماعهم القراءة أحيانا أخرى؛ كما ثبت ذلك بالأحاديث الصحيحة، ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم - لأُبي بن كعب : ((إن الله أمرني أن أقرأ عليك))، قال : آللهُ سماني لك؟ قال : ((الله سماك لي))، فجعل أُبي - رضي الله عنه - يبكي، والحديث في صحيح مسلم.
ومنها طلبُه - صلى الله عليه وسلم - من ابن مسعود - رضي الله عنه - أن يقرأ عليه، فقال : أقرأُ عليك وعليك أُنزل؟ قال : ((إني أحبُ أن أسمعه من غيري))، فافتتح سورة النساء فلما بلغ : ﴿ فكيْف إذا جئْنا منْ كُل أُمةٍ بشهيدٍ وجئْنا بك على هؤُلاء شهيدا ﴾ [النساء: 41]، قال : ((حسبُك))، فالتفت ابن مسعود فإذا عيناه - صلى الله عليه وسلم - تذرفان، والحديث أخرجه البخاري، ويحتمل أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أحب أن يسمعه من غيره؛ ليكون عرض القرآن سنة يُحتذى بها، كما يحتملُ أن يكون لكي يتدبره ويتفهمه؛ وذلك لأن المستمع أقوى على التدبر، ونفسه أخلى وأنشط من القارئ؛ لاشتغاله بالقراءة وأحكامها.
وقال - صلى الله عليه وسلم - آمرا الناس بتعلم قراءة القرآن، وبتحري الإتقان فيها، بتلقيها عن المتقنين الماهرين : ((خُذُوا القرآن من أربعة : من عبدالله بن مسعود، وسالمٍ، ومعاذ، وأبي بن كعب))، والحديث في البخاري.
وكل هذا يدل على أن هناك صفة معينة، وكيفية ثابتة لقراءة القرآن لا بد من تحقيقها، وهي الصفة المأخوذة عنه - صلى الله عليه وسلم - وبها أُنزل القرآن، فمن خالفها أو أهملها فقد خالف السنة وقرأ القرآن بغير ما أنزل الله - تعالى، وصفة القراءة هذه هي التي اصطلحوا على تسميتها بعد ذلك بالتجويد.