جزء حرووف
الخطبة الاولى
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا هو الحق المبين، وأشهد أن محمدًا رسول الله، النبي الأمين، صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه أجمعين، حبيبنا، وقائدنا، وشفيعنا محمد بن عبد الله، اللهم ارزقنا شفاعته، واجعلنا من أهل سنته، وارزقنا محبته، محبة نقدمه بها على المال والأهل والولد اللهم صلّ على خلفائه، وأصحابه، وآله، وأزواجه، وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى آله، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله:
أما بعد:
تكمن أهمية الموضوع في أمور منها: -
وضع المجتمعات الحالية التي يعيش فيها المسلمون، وأنواع الفتن والمغريات التي بنارها يكتوون، وأصناف الشهوات والشبهات التي بسببها أضحى الدين غريباً،
فنال المتمسكون به مثلاً عجيباً (القابض على دينه كالقابض على الجمر).
ولا شك عند كل ذي لب أن حاجة المسلم اليوم لوسائل الثبات أعظم من حاجة أخيه أيام السلف،
والجهد المطلوب لتحقيقه أكبر؛ لفساد الزمان، وندرة الأخوان، وضعف المعين، وقلة الناصر. - كثرت حوادث الردة والنكوص على الأعقاب، والانتكاسات حتى بين بعض العاملين للإسلام مما يحمل المسلم على الخوف من أمثال تلك المصائر، ويتلمس وسائل الثبات للوصول إلى برٍ آمن. قول الشاعر: وما سمي الإنسان إلا لنسيانه *** ولا القلب إلا لأنه يتقلب فتثبيت هذا المتقلب برياح الشهوات والشبهات أمر خطير يحتاج لوسائل جبارة تكافئ ضخامة المهمة وصعوبتها.
فتن آخر الزمان
أيها المؤمنون..
إنَّ اللهَ قد أَسبَغَ على العبادِ نِعَمًا ظاهرةً وباطنة، واصطَفَى نِعمَةً هِيَ أَنفَسُ النِّعَمِ وأعلاها.. مَنَحَهَا لمن شاءَ مِن عِبادِه...
فأعظَمُ النِّعَمِ نِعمَةُ الإسلامِ.
وهي أَكثرُ النِّعَمِ عُرضةً للزَّوال، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إنَّ القُلوبَ بينَ إصبُعَيْنِ مِن أصابعِ اللَّهِ، يقلِّبُها كيفَ شاءَ"؛ رواه الترمذي وابن ماجة.
وكان يعقوبُ -عليه السلام- يُوصي أولادَه بالحِفاظِ عليها، يقولُ لهم: ﴿ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 132].
ومِن دُعَاءِ الرَّاسِخِينَ في العِلم: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8].
وكلُّ مُسلِمٍ مَأمُورٌ بدعاءِ اللهِ في صلاتِه وسؤالِهِ الهدايةَ والثباتَ على الدِّين، في قولِه: ﴿ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6].
واللهُ -سبحانه- يقولُ في الحديثِ القدسيِّ: "يا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ "؛ رواه مسلم.
عباد الله..
وفي آخِرِ الزمان.. تكثُرُ الفِتَنُ، فتُزَعزِعُ قلوبَ العِباد -إلا مَن رَحِمَ الله-.
وتُخرِجُ المرءَ عن دِينِهِ في يَومِهِ أو لَيلَتِه.. قال -عليه الصلاة والسلام-: " بَادِرُوا بالأعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا"؛ رواه مسلم.
أي: اجتَهِدُوا وسارِعُوا بالأعمالِ الصالحاتِ قبلَ أن تأتيَ فتنٌ تُشغِلُ الإنسانَ وتُثَبِّطُهُ عنِ العملِ الصالح..
ومِن شِدَّةِ تِلكَ الفتنِ، أنَّها تكونُ مُظلمةً كَقِطَعِ الليلِ المُظلِمِ؛ لايَكادُ يَرَى المرءُ فيها نُورَ الحقِّ.. بل تَشتَبِهُ الأمورُ على كثيرٍ مِنَ الناسِ؛ فيُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا.. يَبِيعُ ويَترُكُ دينَهُ لِيَنَالَ عَرَضًا مِنَ الدُّنيا: مالًا، أو جاهًا، أو رئاسةً، أو نِساءً أو غيرَ ذلك
عبادَ الله..
لقد كان نبيُّكُم -صلى الله عليه وسلم – يتعوذُ باللهِ مِنَ الفِتَنِ فيقول: " اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ مِن عَذَابِ القَبْرِ، ومِنْ عَذَابِ النَّارِ، ومِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا والمَمَاتِ، ومِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ"؛ رواه البخاري ومسلم.
كما أَمَرَ أُمَّتَهُ بِالتَّعَوُّذِ مِنهَا، فقال: " تَعَوَّذُوا باللَّهِ مِنَ الفِتَنِ، ما ظَهَرَ منها وَما بَطَنَ ".
أيها المؤمنون..
اعلموا -رحمكم الله- أنَّ الفِتَنَ نوعان:
فِتَنُ الشُّبُهاتِ -وهيَ الأخطر-، وفِتَنُ الشَّهواتِ.
فَأمَّا فِتَنُ الشُّبُهات: فهيَ كلُّ فِتنَةٍ مَبنيةٌ على الجهلِ بالدِّين، فَيلتَبِسُ الحقُّ بالباطِلِ..
ومِن ذلكَ: ما حَصَلَ مِن أهلِ البِدَعِ الذين ابتدعوا في عقائدِهم، أو أقوالِهِم أو عِباداتِهم أو مُعاملاتِهِم ما ليسَ مِن شريعةِ الله، فَضَلُّوا عنِ الحقِّ وهُمْ يحسبونَ أنَّهم يُحسِنونَ صُنعًا.
وأمَّا فِتَنُ الشَّهواتِ: فهيَ التي يُقدِّمُ فيها الإنسانُ مُرادَهُ وهواهُ على مُرادِ اللهِ تعالى،
فيفعلُ الحرامَ؛ اِتِّباعًا لهواهُ وشهوتِه، وهو يعلمُ أنَّ اللهَ حرَّمه.
ويترُكُ الفرائضَ والواجِباتِ؛ كسلًا عنها، وهوَ يعلمُ أنَّ اللهَ أوجبها عليه.
وفِتَنُ الشَّهَواتِ كثيرةٌ جدًا: فمِنها شهوةُ الفَرجِ، وشهوةُ البَطنِ، وشهوةُ جمعِ المالِ، وشهوةُ الرِّئاسَةِ والوَجاهَة، وشهوةُ النَّظَرِ وشهوةُ الكلام..، وغيرُها كثير..
ومِن أسبابِ الثباتِ على دينِ الله:
الفرارُ مِنَ الفِتن، وعدَمُ التَّعَرُّضِ لها،
كما جاء في قصةِ الرجلِ الذي قَتَلَ تِسعةً وتسعين إنسانًا: أنه سألَ عَن رَجُلٍ عَالِمٍ فقال العالِمُ: "ومَن يَحُولُ بيْنَهُ وبيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إلى أرْضِ كَذا وكَذا، فإنَّ بها أُناسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فاعْبُدِ اللَّهَ معهُمْ، ولا تَرْجِعْ إلى أرْضِكَ، فإنَّها أرْضُ سَوْءٍ".
ومِن أعظَمِ أسبابِ الثباتِ على دينِ الله:
الدعاء، وقد كانَ أكثرُ دعاءِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "يا مُقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِكَ".
ولِكُلِّ ما سبَقَ طريقانِ: طريقٌ أحلَّهٌ اللهُ، وطريقٌ حرَّمَه.
والمؤمنُ يكتفي بالحلالِ عنِ الحرامِ.
والـمَفتُونُ يَتَخبَّطُ في الحلالِ والحرام، ولا يُراعي أمرَ اللهِ ونهيَهُ -والعياذُ بالله-.
اللهمَّ إنَّا نعوذُ بِكَ مِنَ الفِتنِ ما ظهرَ منها وما بَطن،
اللهمَّ اكفِنا بِحلالِكَ عن حرامِك، وأَغنِنا بفضلِكَ عمَّن سواك.