الجزء الاول حروف
حينما نتطرق إلى قصص القرآن الكريم نستذكر الحوادث الواقعة وأحوال الأمم الماضية والنبوات السابقة كما أخبرنا بها الله في كتابه العزيز، فقد اشتمل القرآن على كثير من وقائع الماضي وذكر البلاد والديار وتتبع آثار كل قوم وحكى صورة ناطقة لما كان يدور في هذه العصور، والمغزى من ذلك قوة التأثير في إصلاح القلوب والأعمال والأخلاق، فهناك قصص عرضت بالكامل في سورة واحدة وأخرى عرض جزء منها في سورة والآخر في سورة أخرى.
فقد بين الله لنا أصول الدين المشتركة بين جميع الأنبياء. فهذه القصص ليست مفتراة بدليل وجود أمثالها بين الناس، ففيها الحكم والعبر ونستفيد منها الكثير.
وبعد ما ذكرناه، نترككم كي تعايشوا هذا الجو القصصي في حلقات متتالية، سيتم عرضها في فقرات تباعا لكي نستفيد من مغزاها والدروس المستفادة منها، وتكون خير معين لنا في فهم ديننا وإيصاله للناس بالصورة الصحيحة وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى إنه نعم المولى ونعم النصير.
- المفسرون اختلفوا في تحديد هويتهم ولكن اتفقوا أن «الرس» بئر عظيمة
- كانوا عُبَّاداً لشجرة صنوبر غرسها يافث بن نوح وتسمى شاهدرخت
وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا ؛ ue]ص: 5281 ] وعادا ؛ معطوفة على " قوم نوح " ؛ وعاد هم قوم هود؛ الذين كفروا؛ فأنزل الله بهم عذابه في الدنيا بريح فيه عذاب شديد؛ كما قال (تعالى): فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم
وثمود هم قوم صالح؛ أهلكوا بريح صرصر عاتية.
وأما أصحاب الرس؛ فقد اختلفت الروايات عن السلف في تفسيرها؛ أو من هم؛ وأصل " الرس " ؛ كما قال الأصفهاني؛ في مفرداته: الأثر القليل الموجود في الشيء؛ يقال: " سمعت رسا من خبر " ؛ و " رس الحديث في نفسي " ؛ أي: أثره؛ وروي أن الرس اسم لبئر؛ وهكذا وردت روايات كثيرة عن أصحاب الرس؛ وأحسن ما روي في ذلك روايتان؛ هما أن أصحاب الرس وأصحاب الأيكة هم قوم شعيب الذين دعاهم إلى التوحيد؛ ومبادئ الأخلاق؛ وتنظيم المعاملة والعدالة في الكيل والميزان؛ والثانية ما رواه ابن جرير واختاره؛ وهم أصحاب الأخدود؛ الذين هلكوا بإلقائهم في أخاديد ألقيت فيها النيران؛ وأصحاب الأخدود الذين هلكوا هم الذين فعلوا بالمؤمنين ذلك؛ كما جاء في سورة " البروج " ؛ في قوله: والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد
وإن هؤلاء قد بلغوا أقصى غايات القسوة في معاملة المؤمنين؛ وقد أخذهم الله (تعالى) أخذ عزيز مقتدر؛ وذكرهم في هذه المناسبة لبيان عتوهم؛ وأنهم قد انتقم منهم؛ كما انتقم من فرعون؛ وكما ينتقم من كل المشركين؛ وإنا نميل إلى الرواية الأولى؛ وهي أنهم قوم شعيب; لأن سنة القرآن الكريم في قصصه أن يعرض قصة شعيب بعد عاد وثمود؛ فبمقتضى هذا المنهاج القويم نميل إلى أنه - سبحانه وتعالى - أشار إلى قصة شعيب بهذه الإشارة. ue]ص: 5282 ] الإشارة في قوله (تعالى): وقرونا بين ذلك ؛ إلى الزمن الذي كان بين نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس؛ و " القرن " ؛ هو الجيل من الناس؛ أي أن أجيالا بين هؤلاء الأنبياء كثيرا كانت فيها العبر؛ ولكن قل المعتبر؛ و " كثيرا " ؛ وصف لمحذوف؛ تقديره: " عددا " ؛ أو وصف لـ " قرونا " ؛ نفسها.جاء في الآية تمان مسائل :المسألة الأولى : عطف ( وعادا ) على "هم" في ( وجعلناهم ) أو على "الظالمين" ؛ لأن المعنى : ووعدنا الظالمين .المسألة الثانية : قرئ : ( وثمود ) على تأويل القبيلة ، وأما على المنصرف فعلى تأويل الحي ، أو لأنه اسم للأب الأكبر .المسألة الثالثة : قال أبو عبيدة : الرس هو البئر غير المطوية ، قال أبو مسلم : في البلاد موضع يقال له : الرس ، فجائز أن يكون ذلك الوادي سكنا لهم ، والرس عند العرب الدفن ، ويسمى به الحفر ، يقال : رس الميت إذا دفن وغيب في الحفرة ، وفي التفسير أنه البئر ، وأي شيء كان فقد أخبر الله تعالى عن أهل الرس بالهلاك . انتهى .المسألة الرابعة : ذكر المفسرون في أصحاب الرس وجوها :أحدها : كانوا قوما من عبدة الأصنام أصحاب آبار ومواش ، فبعث الله تعالى إليهم شعيبا عليه السلام ، فدعاهم إلى الإسلام ، فتمادوا في طغيانهم وفي إيذائه ، فبينما هم حول الرس خسف الله بهم وبدارهم .وثانيها : الرس قرية بفلج اليمامة قتلوا نبيهم فهلكوا وهم بقية ثمود .وثالثها : أصحاب النبي كحنظلة بن صفوان كانوا مبتلين بالعنقاء ، وهي أعظم ما يكون من الطير ، سميت بذلك لطول عنقها ، وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له : فتخ ، وهي تنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد ، فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة ، ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا .ورابعها : هم أصحاب الأخدود ، والرس هو الأخدود .وخامسها : الرس أنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار ، وقيل : كذبوه ورسوه في بئر ، أي : دسوه فيها .وسادسها : عن علي عليه السلام أنهم كانوا قوما يعبدون شجرة الصنوبر ، وإنما سموا بأصحاب الرس ؛ لأنهم رسوا نبيهم في الأرض .وسابعها : أصحاب الرس قوم كانت لهم قرى على شاطئ نهر يقال له : الرس من بلاد المشرق ، فبعث الله تعالى إليهم نبيا من ولد يهود بن يعقوب فكذبوه ، فلبث فيهم زمنا ، فشكى إلى الله تعالى منهم ، فحفروا بئرا ورسوه فيها . وقالوا : نرجو أن يرضى عنا إلهنا . وكانوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيهم يقول : إلهي وسيدي ترى ضيق مكاني وشدة كربي وضعف قلبي وقلة حيلتي ، فعجل قبض روحي ، حتى مات ، فأرسل الله تعالى ريحا عاصفة شديدة الحمرة ، فصارت الأرض من تحتهم حجر كبريت متوقد ، وأظلتهم سحابة سوداء ، فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص .وثامنها : روى ابن جرير عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، أن الله بعث نبيا إلى أهل قرية ، فلم يؤمن به من أهلها أحد إلا عبد أسود ، ثم عدوا على الرسول فحفروا له بئرا فألقوه فيها ، ثم أطبقوا عليه حجرا ضخما ، وكان ذلك العبد يحتطب فيشتري له طعاما وشرابا ويرفع الصخرة ويدليه إليه ، فكان ذلك ما شاء الله ، فاحتطب يوما ، فلما أراد أن يحملها وجد نوما فاضطجع ، فضرب الله على أذنه سبع سنين نائما ، ثم انتبه وتمطى وتحول لشقه الآخر ، فنام سبع سنين أخرى ، ثم هب فحمل حزمته ، فظن أنه نام ساعة من نهار ، فجاء إلى القرية فباع حزمته واشترى طعاما وشرابا وذهب إلى الحفرة ، فلم يجد أحدا ، وكان قومه قد استخرجوه وآمنوا به وصدقوه ، وكان ذلك النبي يسألهم عن الأسود ، فيقولون : لا ندري حاله ، حتى قبض الله النبي وقبض ذلك الأسود ، فقال عليه السلام : "إن ذلك الأسود لأول من يدخل ue]ص: 73 ] الجنة" .واعلم أن القول ما قاله أبو مسلم ، وهو أن شيئا من هذه الروايات غير معلوم بالقرآن ، ولا بخبر قوي الإسناد ، ولكنهم كيف كانوا فقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم أهلكوا بسبب كفرهم .المسألة الخامسة : قال النخعي : القرن أربعون سنة . وقال علي عليه السلام : بل سبعون سنة ، وقيل : مائة وعشرون .المسألة السادسة : قوله " بين ذلك " أي : بين ذلك المذكور ، وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها بذلك ، ويحسب الحاسب أعدادا متكاثرة ، ثم يقول : فذلك كيت وكيت ، على معنى فذلك المحسوب أو المعدود .أما قوله : ( وكلا ضربنا له الأمثال ) فالمراد بينا لهم وأزحنا عللهم ، فلما كذبوا تبرناهم تتبيرا ، ويحتمل ( وكلا ضربنا له الأمثال ) بأن أجبناهم عما أوردوه من الشبه في تكذيب الرسل ، كما أورده قومك يا محمد ، فلما لم ينجع فيه تبرناهم تتبيرا ، فحذر تعالى بذلك قوم محمد صلى الله عليه وسلم في الاستمرار على تكذيبه ؛ لئلا ينزل بهم مثل الذي نزل بالقوم عاجلا وآجلا .المسألة السابعة : ( وكلا ) الأول منصوب بما دل عليه " ضربنا له الأمثال " ، وهو أنذرنا أو حذرنا ، والثاني بتبرنا لأنه فارغ له .المسألة الثامنة : التتبير التفتيت والتكسير ، ومنه التبر ، وهو كسارة الذهب والفضة والزجاج .